الخميس، 25 نوفمبر 2021

بين "شاكر" و"ساويرس".. ذوق الشعب لايأتى من أعلى

هاني شاكر                                       نجيب ساويرس

عبدالرحيم كمال

مرة أخرى يثور النقاش حاداً حول الحالة الغنائية السائدة في مصر الآن، ولأن الغناء هو الفن الأكثر تعبيراً والتصاقاً بالناس، فإن الخلاف يصبح ككرة ثلج تتدحرج لتكبر وتنمو وتتحول لجبل.. وإن كان التراشق ينحصر الآن بين الفنان "هاني شاكر" نقيب الموسيقيين، ورجل الأعمال "نجيب ساويرس".. "هاني شاكر" هدفه نبيل ولا شك فيه، لكن المنع ليس وسيلة الإصلاح او التطوير، وإذا منعت هؤلاء المغنين فسيزيد تواجدهم في الحفلات الخاصة والأعراس، الذين يتجذرون فيها بالأساس، إضافة لليوتيوب.. وهذه الألوان الشعبية تجتذب على الأقل نصف الشعب المصري، بما يزيد عن 50 مليوناً.. إذن المنع قرار خاطئ، كما أن المنع يصب في خانة الوصاية على ذوق الشعب المصري، وهو مالا يملكه أحد، وهي بادرة سيئة تتم للمرة الأولى في مصر، وأعتقد على مستوى العالم.

تغيير الذوق العام

الموضوع أكبر من اختزاله في أسماء أو أشخاص معينين.. فلا أحد يستطيع ولا أحد يملك حق تغيير أو يدّعي القدرة على تطوير الذوق العام، لكن يمكن للفنانين والمسئولين المعنيين بالثقافة والفن المساهمة في الارتفاع بالذوق العام بتقديم أعمال جيدة للجمهور -وهو دورهم الطبيعي في كل الأحوال-.. وواضح أن "هاني شاكر" وهو فنان جميل وكبير، وهو ابن بيئة موسيقية أصيلة، تضرب جذورها في الكلاسيك المصري القديم من الحامولي وسلامة حجازي والخُلَعي وسيد درويش وزكريا أحمد، مروراً بالسنباطي ومحمد عبدالوهاب، وصولاً لبليغ حمدي ومحمد الموجي -الذي اكتشف هاني وقدَّمه للساحة الفنية في السبعينيات بأغنيته الأولى "حلوة يا دنيا" وهي أفضل وأجمل أغنيات هاني شاكر حتى الآن..

لكن "هاني شاكر" غير مؤهل لتغيير الذوق العام، لأنها عملية تمتد لعشرات السنين، وتستند إلى علوم النفس والاجتماع والتربية لبحث أسباب الانهيار وتقديم "روشتة" للعلاج، ويأتي دور الأعمال الفنية الجيدة في الحلقة الأخيرة من العملية وهي الحلقة المتروكة لمساهمة الفنانين.

سيد درويش                   أم كلثوم

أسباب الهبوط

نقيب الموسيقيين يسوؤه مستوى الأغنية -كما يسوؤنا- لكنه يجهل أسباب هبوط الأغنية والذوق العام عموما، وهي النقطة المحورية في هذا الجدل غير المنتهي، وللأسف، ورغم أنه فنان، لم يستطع التوصل لنقطة صغيرة وبديهية، وهي ضرورة إعادة وزارة التربية والتعليم لحصص التربية الموسيقية، لتخريج أجيال تتذوق الموسيقى، وتمثل سداً مانعاً ضد الأغاني الفاسدة.. لكن النقيب الفنان لم يفهم هذه العلاقة البسيطة بين انهيار التعليم وانهيار الذوق العام.

بداية الانهيار

الانهيار بدأ إثر نكسة 1967، وهي زلزال ماتزال توابعه تترى -وستستمر إلى 20 سنة أخرى على الأقل- لأن النكسة لم تكن فقط عسكرية، ولكنها كانت نكسة للمشروع الناصري بكل تفاصيله، ومنها الانفتاح الثقافي، مما جعلنا نتوجه للتقوقع والانكماش، أو التدين الظاهري والدروشة والاعتقاد بالغيبيات، ليبدأ مسلسل الانهيار العظيم الممتد حتى الآن.. وبعيداً عن الحالة الغنائية التي نتفق على هبوطها، تعالوا نسأل أنفسنا: هل هناك شاعر واحد مؤثر تتفق عليه جماهير المثقفين، كذلك الأمر بالنسبة للرواية، والسؤال الموجع عن السينما -تلك العزيزة الراحلة، أو على الأقل تعيش في العناية المركزة- فبعد أن كانت مصر تنتج بين 100- 120 فيلما سنوياً تراجع الرقم لينكمش ويتوقف في أعظم الأحوال عند 20 فيلما في السنة ودون أن يحس بها أحد، رغم توافر العناصر اللازمة للعملية الإنتاجية وأهمها العنصر البشري من فنانين وفنيين، ثم البنية التحتية من استوديوهات وأجهزة فنية، وفي مقدمة كل ذلك جمهور ضخم لايجد ما يشاهده في السينما، إن وجد دار العرض أصلاً.

طبعاً.. لن أسأل عن الفن التشكيلي ولا الباليه وفنون الأوبرا، فهي فنون نخبوية يخافها العامة ليلوذوا بالفرار منها.. لكن ماذا عن المسرح الذي لايعتمر "برنيطة" فوق رأسه، وإنما طاقية وعمامة ويضع الشال على كتفيه، وهو فن يتكلم بلغتنا ويناقش أوجاعنا.. فلماذا اختفى؟

التعليم أولاً

مهما حاولنا، فلن نتقدم خطوة حقيقية واحدة بدون عملية تعليمية سوية.. وأظن أننا جميعا بتنا واثقين من أهمية التعليم، وأن التعليم الجيد ضرورة لجودة الحياة، فجودة التعليم ليست رفاهية..

ولأن "طباخ السم بيدوقه" على رأي مثَلنا العتيد، قدم التعليم المنهار طوال العقود الماضية - -وبشكل بديهي- منتجه للمنظومة التعليمية نفسها، معلمين فاشلين في العملية التعليمية، ومسئولين لا يعلمون أهمية التعليم ولا دوره في المجتمع، وبالتالي ليس بمقدورهم توصيف المشكلة ووضع حلول لها.. والمشكلة سوف تستمر في ظل النكوص عن حل المشكلة حلاً جذرياً، والحل يستغرق حوالي 20 سنة متواصلة، هي الفترة التعليمية من التحاق الطفل بالحضانة حتى تخرّجه في الجامعة -غير متضمنة الدراسات العليا-

طبعاً، المنتَج السيئ المتمثل في المعلم والمسئول غير المؤهلين لا للتعليم أو القيادة، كان زلزالاً من توابعه إلغاء حصص تنمية الإنسان، من تربية رياضية وموسيقى ورسم وأشغال.. لذلك فالشعب المصري كله -مع بعض الاستثناءات- لا يعرف إذا ما كان اللحن الموسيقي الذي يسمعه جيداً أو لا، وكذلك لا يستطيع الحكم على المطرب وصوته وأدائه.. الأمر نفسه في الرياضة، فإذا ضربنا المثل بكرة القدم وهي اللعبة الشعبية الأولى في مصر، فسنجد أن النسبة العظمى من الجماهير لا تستطيع تقييم لاعب أو فريق بشكل علمي، والمسألة تعتمد على تشجيع فريق معين وصب اللعنات على الفرق الأخرى، ولذلك ينتشر لدينا التعصب الرياضي الأعمى، وهو مناخ مناسب لغرس الكراهية في النفوس واعتماد مبدأ رشوة الحكام أو لاعبي فريق معين، وحتى اتحاد الكرة.. وهكذا دواليك.. ومن الرياضة تصاب الحياة عندنا بالتعصب والكراهية للآخرين، وعلى طول الخط.

المشكلة نفسها تتكرر في عدم القدرة على فرز الجيد من الردئ في الدراما التليفزيونية أو السينمائية، المواطن المصري -في الغالب- لا يستطيع القطع إذا ما كان هذا الممثل جيداً أم لا، ولا يشعر بجمال او رداءة تصوير مشهد أو كادر معين.. بل أراهن بعمري على أن 90% من الشعب المصري لا يستطيعون التفريق بين مخرج أو آخر، حتى في الأفلام السينمائية التي يحفظونها عن ظهر قلب، وعلى هذا فقس.. ويبقى النقد الانطباعي سيد الموقف.. وتكون النتيجة قارات هوجاء متعصبة غير واعية وغير منطقية، والسبب غياب التعليم الجيد.

رحيل الجمال

 الموسيقى جمال، ويصنّفها بعض الفلاسفة في الفنون الجميلة.. إذن، ماذا عن الفنون الجميلة لدينا.. سأقول لك: الله يرحمها.. ماتت، وقد خلّف موتها دماراً بصرياً، انظر أولاً لجبال القمامة في كل أحياء مصر، الراقية والشعبية، من مصر الجديدة للمهندسين لبولاق الدكرور وفيصل وغيرها من الأحياء والمدن.. وانظر للأبراج حولك في أي مكان لتصطدم عيناك بالمنظر المؤذي للطوب الأحمر.. وكأنه الشيء الطبيعي ولا يوجد طلاء للمباني من الخارج.. تُرى: ماذا ننتظر من طفل أصبح شاباً ورباً لأسرة، ثم أصبح مسئولاً في الدولة، وقد تعوّد على القبح رؤية وسماعاً.. أليس طبيعيا أن نرى القبح طبيعيا؟

وردة الجزائرية

تراث.. ولكن

نعود للمجرى الرئيسي لنهر الموضوع لنقول إن الفنان النقيب "هاني شاكر" مستاء من حالة الأغنية، ومعه الحق، لكن، وهو الدارس للموسيقى وأحد خريجي كلية التربية الموسيقية بالزمالك، ألا يتذكر الأغنيات القديمة التي نقدمها ونفخر أنها تراثنا، ومنها "الحب دح دح.. والهجر كخ كخ" لـ "رتيبة أحمد" واشتهرت بها سلطانة الطرب "منيرة المهدية"، و" وعنها ودوغري خدت لي بوسة لكن صنعة" لسيد درويش في أغنية "على قد الليل ما يطوّل" من أوبريت "العشرة الطيبة"، و"هات القزازة/ واقعد لاعبني" لنعيمة المصرية، وأرجو الانتباه إلى أن الأغنية الأخيرة بها مشكلتان، الأولى "هات القزازة" والثانية "واقعد لاعبني" وكل منهما معيب.. كما غنت السيدة "أم كلثوم" -سيدة الغناء العربي- أغنية "الخلاعة والدلاعة مذهبي" والتي بدلتها بعد ذلك بـ " أنا اللطافة والخفة مذهبي"..

هذا على مستوى النص أو كلمات الأغنية.. فإذا اتجهنا للحن فلابد أن نتوقف عند "الهنك والرنك"، الذي كان سائدا أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر، ويعتمد التطويل المبالغ فيه، وكانت الإذاعات الأهلية تقيّم الأغنية بمدتها الزمنية، ودعنا نستعيد في هذه النقطة الدور الأهم للراحل خالد الذكر "سيد درويش" في تمصير الأغنية والتخلص من الزيادات اللحنية والنزول بها إلى الشارع المصري لتلتحم به وتترجم له وتعبّر عنه.

تُرى: ما رأي الفنان النقيب في ذلك.. ألم تنته الأغنيات سيئة الذكر محفوظة في الأرشيف، فيما لانزال نتغنى بكل الأغاني الجميلة؟

وردة وعدوية

على أن هناك حالتين غنائيتين أثارتا الجدل في ما مضى.. الأولى أغنية "السح دم امبو" التي عرفتنا بالمطرب الجديد وقتها "أحمد عدوية"، كان ذلك في 1969، وقد رفضه كمطرب جميع المثقفين والمتعلمين، كما رفضوا الأغنية وألفاظها الغريبة.. واستمر الرفض حتى أصبح "عدوية" عنواناً للأغنية الكلاسيكية المصرية نترحم عليها إزاء ما نسمع من أغنيات تدَّعي الشعبية في الماضي القريب والوقت الحالي.

احمد عدوية

الحالة الثانية للمطربة الكبيرة الراحلة "وردة الجزائرية" التي كان يرفضها اليساريون التقدميون، بل ويطلقون عليها من باب التهكم والسخرية "ورشة".. لكن بعد أن كبرنا -أو هرمنا- أصبحنا نستمتع بغنائها.. في الحالتين، عدوية ووردة، مر الزمن وهما يقدمان ما لديهما، وبمرور الزمن تغيرت الرؤى والأفكار ليقوم من شاء بمراجعة أفكاره وذائقته ويعيد اكتشاف وتقييم وردة وعدوية.. والأمر نفسه هو ما سيحدث مع كل ما هو جديد في الحياة، ومنها الغناء، لكن يبقى أن دور نقيب الموسيقيين هو حماية الفنانين أعضاء النقابة وتوفير الخدمات الأساسية لهم من سكن وعلاج ومعاش، مثلما قال "ساويرس"، فدور النقابة حماية الفنانين، وإذا ما شعروا بالاطمئنان في حياتهم الشخصية، أنتجوا فناً جيداً.

الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

الموضوع منشورا في موقع "عين على السينما" عبد الرحيم كمال وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا...