‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أدب. إظهار كافة الرسائل

السبت، 4 يناير 2025

"بيت خالتي".. رواية تفضح آلة التعذيب السورية

قراءة للرواية السورية "بيت خالتي" منشورة بموقع "الحوار المتمدن"

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=853400

-بيت خالتي-.. رواية تفضح آلة التعذيب السورية


عبدالرحيم كمال 

الحوار المتمدن-العدد: 8210 - 2025 / 1 / 2 - 11:15
المحور: الادب والفن

عبدالرحيم كمال

"بيت خالتي" اسم حركي للمعتقلات السورية، وبقدر مافي الاسم من كناية، فإن فيه الكثير من السخرية المرة، فبيت الخالة عادة يعني الحب والحنان والعطف، والخالة والدة في ثقافتنا الشعبية، فيما المعتقل لايحمل شيئا من هذه الصفات، بل يحمل ضدها، وهو مايستعرض بعضا منه المؤلف "أحمد خيري العمري" في روايته "بيت خالتي" التي صدرت في عام 2022.


تدور أحداث الرواية بين سوريا -حيث المعتقلات- وألمانيا حيث يعيش كثير من الشخوص، وتتمحور حول "أنس خزنجي" الشاب السوري الذي يدرس الطب في ألمانيا، ولكنه يتحول عنه لدراسة الإخراج السينمائي.. ورغم محورية شخصية "أنس"، فإن الحديث عنه يكون بالاستعادة/ بصيغة الماضي، فالرواية تبدأ بالبحث عنه لنكتشف انتحاره في شقته.

أسباب متقاطعة

يمارس المؤلف التحليل النفسي للشخوص عبر شخصية "يزن" ابن خالة "أنس" وهو طبيب نفسي يعيش في ألمانيا، لكن في مدينة بعيدة عن برلين حيث يعيش "أنس"، ليناقش الأسباب النفسية التي تجعل "أنس" ينتحر، ولا يجد القريبون منه سببا منطقيا للانتحار، فهو شاب وسيم، ناجح واجتماعي وابن عائلة سورية كبيرة وميسور الحال.. لكن "نور" -صديقة "أنس"- تكشف لـ "زين" عن شريط سينمائي وثائقي كان "أنس" يعمل عليه منذ سنوات، يتناول فيه الأحداث البشعة التي تحدث في "بيوت خالات" السوريين، وقد صوّر شهادات لعدد كبير ممن تعرضوا للاعتقال.. ليبدأ "زين" في الاكتشاف التدريجي لعمق وتعقد المشكلة، فتوضح له "نور" خضوع "أنس" لجلسات علاج نفسي في الشهور الأخيرة، ثم انطواءه وابتعاده عن الناس مؤخرا، وكلها تشير إلى اكتئاب يمكن أن يؤدي إلى الانتحار.. لكن تساؤلا يطرح نفسه إزاء الحالة التي وُجد "أنس" عليها معلقا في السقف، فكل شئ في البيت مرتب ومنظم، حتى أن الأواني في المطبخ نظيفة، مما يبتعد بالفكر عن فكرة الانتحار.

المعادل لفكرة إنتحار "أنس" هي إقدام أحدهم على تنفيذ الجريمة بهذا المستوى، وتتجه أصابع اتهام "الثوريين" من السوريين إلى تنفيذ النظام السوري للعملية، بعد عدة أحداث تشير لقلق النظام من خروج الفيلم إلى النور، ومنها موقف إحدى الشركات الداعمة التي تضع شروطا لـ "تمييع" الموضوع وتحويل خطاب الفيلم إلى جهة أخرى، بحيث لا يشير إلى النظام السوري، وهي ضغوط يرفضها "أنس".. فيما أنه عند اكتشاف البوليس الألماني للانتحار يكون "أنس" -أو منفذ العملية- قد وضع أغنية "أنا الدمشقي" لـ "أصالة نصري" في مقدمة مسلسل "نزار قباني":

((أنا الدمشقي.. لو فتحتم شراييني بمُديتكم

سمعتم في دمي أصواتَ من راحوا

أنا الدمشقي لو شرَّحتُمُ جسدي

لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ

مآذنٌ الشّامِ تبكي إذْ تعانقُني

وللمآذنِ.. كالأشجارِ أرواحُ

وكيف نكتبُ والأقفالُ في فمِنا

وكلٌّ ثانيةٍ يأتيك سفَّاحُ

حملتُ شِعري على ظهري فأتعبني

ماذا من الشِّعر يبقى حين يرتاحُ))

من الفاعل

يعتبر "زين" أن الأغنية إشارة ذات مغزى، فهل "أنس" هو الذي وضعها على وضع الإعادة بجهاز التليفون Answer Machin ، هل انتحر "أنس"، أم شنقوه في بيته بعملية مخابراتية، أم "انتحروه" -دفعوه للانتحار-؟ يظل السؤال معلقا دون أن تجيب سطور الرواية عنه، لتفسح للأحداث ومقاطع الفيلم مساحة للتكهن عمن يكون الفاعل.

تعود بدايات الأحداث إلى أيام الربيع العربي في عام 2011، حيث يرفع الشباب شعارهم "لا سلفية ولا أخوان.. ثورتنا ثورة شبان"، فيما كان شعار الشبِّيحة -رجال النظام- (الأسد أو نحرق البلد)، بعدها تم اعتقال "كنان" وهو  صديق "أنس" وحُكم عليه بالسجن المؤبد، وعُثر على صديقه الآخر "معاذ" مقتولا في دمشق، ويتضح فيما بعد أن من قتله هم الثوار بعد اكتشاف تعاونه مع الأمن، لتبدأ بوادر العصف النفسي -ثم عدم الإتزان- عند "أنس"، التي ربما يكون قد زادها عصفا المعلومات التي قدمها المعتقلون الذين أدلوا بشهاداتهم في الفيلم.



خبرة ألمانية

يوثق المؤلف انضمام "ألويس برونر" وهو ضابط نمساوي إلتحق بالحزب النازي وأصبح من كبار ضباط سرية الحماية الخاصة بهتلر، وكان المساعد الأول لـ "أدولف إيخمان" الذي كان من كبار الضباط المسئولين عن هندسة وتنفيذ المرحلة الأخيرة من الهولوكوست، وكان المسئول عن اختراع شاحنات الغاز التي  سبقت أفران الغاز في معسكرات الاعتقال..وقد هرب "برونر" في عام 1945 إلى مصر أولا ثم إلى سوريا، حيث عمل مستشارا خاصا للرئيس، ومستشارا في شئون التحقيق والتعذيب، لذا فإن "بيت خالتي" السوري يشبه معتقل "أوشفيتز" الألماني، مع العمل على تحديثه دوما.

مشاهد من الداخل

اعترافات مفزعة يدلي بها الشهود في الفيلم/ الرواية، توضح عدم وجود سقف للتعذيب وابتكار وسائل متجددة أكثر عنفا وإهانة وسحقا لشخصية المعتقلين، بدنيا ومعنويا.. فماذا قالوا؟


إنكار لله والرسول

معتقل يقول: "........ كانت هناك فتاة عارية تماما معلقة في رافعة، كانت آثار التعذيب ظاهرة عليها، بقع الحروق على صدرها وإبطها، كانوا يطفئون سجائرهم هناك، كانت تقول للسجان: مشان الله، فيرد: الله غير موجود الآن، وعندما كانت تقول: مشان النبي، كان يرد عليها: النبي مجاز اليوم..... ثم أخرج الولاعة من جيبه وأحرق شعر عانتها.. آخر ما أذكر كان رائحة الشياط، ثم رحت في غيبوبة".

الاغتصاب بالديمقراطية

تقول معتقلة أخرى أنها كانت تُغتصب كل يوم، وخيروها بين الاغتصاب الجماعي أو المنفرد (حفلة أو سهرة) وكان اعتصابها يتم وفي الخلفية صوت آيات تتلى من سورة النساء، وهو ما تكرر كثيرا، وتقول "أعرف أنهم في الثمانينيات كانوا يوشمون عبارات معينة على أجساد المعتقلين، مثل: الأسد ربي، أو لا إله إلا الأسد"..

تذكر "جوري" -نور- أن صورة الأسد كانت معلقة  في السقف فوق سرير الاغتصاب، إذا فتحت عينيها ستجد صورته أمامها وهو يبتسم، المعتقلات كن يجبرن على الغناء لبشار "نحنا رجالك يابشار، ومنحبك".




تعذيب على صوت فيروز

"كنان" -صديق أنس- يدلي بشهادته: هناك سجان وسخ للغاية، ربما أوسخ من مر عليّ، كنا نسميه "عاصي" على "اسم "عاصي الرحباني"، لأنه كان يعذبنا والموبايل في جيبه يصدح بأغاني فيروز.. كسر سني الأمامي وهو يسمع "رجعت الشتوية"، وكسر ثلاثة ضلوع على "شابف البحر"، وقتل أحد الأطباء المعتقلين ضربا بالجدار حتى الموت بينما كانت الأغنية "كيفك أنت".. ومعتقل آخر يقول: كل سرير في مشفى المزّة العسكري كان عليه ستة أشخاص تقريبا، كل منهم مقيد بقدم واحدة إلى السرير، أحيانا كثيرة كانوا يقضون حاجتهم على أنفسهم والباقين بجروجهم وإصاباتهم المختلفة، بحيث يتحول كل سرير إلى مكان لانتقال العدوى"، وشهادة أخرى "ربما كان الجوع من أصعب ما مررنا به في السجن، بسبب سوء الأوضاع وقلة النظافة، كانت أقدامنا تنتفخ وتتشقق، تصبح أقدامنا مثل جذع شجرة بخشونته وملمسه، وبسبب الجوع الشديد، كنا نأكل جلد أقدامنا، أحيانا كان البعض يتمادى فيأكل جلد زميله الجالس بجانبه".

سخرية الألم

يسخر أحد المعتقلين سخرية مرة من نفسه بعد عودته من جلسة التعذيب وهو غير قادر على المشي، كان يترنح بين الجالسين ويعتذر منهم لعدم قدرته على السيطرة على سيره، أخبرنا بأنهم أجبروه على الجلوس على قنينة مياه غازية، كان يقول (خوزقوني) وهو يحاول أن يداري ألمه بالسخرية من نفسه، وطبيب أسنان ينظفون أسنانه بفرشاة المراحيض، ومعتقل يقول: في مرة كنت اسحب جثة معتقل، وقلت للجالسين: وسعوا يا شباب، معنا شهيد. لم أنتبه للسجان خلفي، ضربني بشدة على رأسي وشتمني وشتم أهلي وهو يصحح لي: اسمه (فطيس) فاعتذرت له.. ومعتقلة تقول: إغتصبوا أمامي فتاة في الصف التاسع (الثالث الإعدادي)، تناوب عليها ستة عساكر، ومعتقل يشير: كان هناك ثلاثة أطفال بيننا كلهم دون العاشرة، واحد منهم تعرض لتعذيب شديد عندما جاءوا به أول مرة، كان متهما بإدخال المياه لمخيم اليرموك، ومعتقلة تقول: في يوم واحد إغتصبت عشر مرات.




كسر رقبة ميت

معتقل آخر يدلي بشهادته: كنت أعمل سخرة "موت" أي يحمل الجثث، أحمل كل يوم أنا وثلاثة من المعتقلين معي حوالي عشر جثث، تأتي شاحنة كبيرة تحمل حوالي 30/ 40 جثة أخرى، كان علينا أن نحشر الجثث الجديدة بين الجثث القديمة لكيلا تسقط كل الجثث علينا،غالبا كنا نضطر لكسر رقبة الميت أو يده كي نضعه في الشاحنة.

شو بدك سيدي

معتقل آخر يقول: في مرة أخرجوني إلى حديقة خلفية فيها قبور محفورة جاهزة للدفن، دفعني المحقق إلى واحد منها، وأخذ يطمرني بالتراب، وأنا أصرخ وأستغيث، بعد أن يغطيني التراب كليا يقول لي: هل ستقول كل الأسماء التي تعرفها؟ أرد عليه (شو مابدك سيدي).

اقتلوني.. الموت أرحم

بعد عمليات تعذيب تستمر 20 ساعة، كان النوم ممنوعا والأكل والشرب، الشرب الوحيد المسموح به كان ماء الشطف، ماء يختلط فيه البول والدم، كان مسموحا أن ننزل إلى الأرض لنلحسه.. كنت أقول في نفسي: اقتلوني، هذا أرحم.



الاعتقال للجميع

يشير المعتقلون إلى أن بيت الخالة يسستقبل جميع المعارضين، والعلويون -عائلة الأسد- ليسوا استثناء ويدخلون المعتقل، يقول أحدهم: في السجن كان المسجونون يخافون أن أكون جاسوسا عليهم، وعندما خرجت من المعتقل لم يرحب اهلي بي واعتبروني ميتا أو مفقودا، بسبب توجيهات النظام لهم وخشيتهم منه.

نظام يأكل نفسه

نموذج آخر تقدمه الرواية/ الفيلم من خلال شخصية "هدباء الحماصني" وهي من "القبيسيات" -مجموعة تدعو للتدين- وتستطيع التواصل مع أسرة "الأسد"، فتتصل بـ "بشرى الأسد" شقيقة بشار، ثم آسماء زوجته، ومع ذلك تم اعتقال ابنتها "نور"، التي تعرضت لحالات اعتصاب  متتالية، كما تقول في شهادتها بالفيلم تحت اسم "جوري"، في إشارة إلى أن النظام يأكل نفسه.


 

بكرة ميت

انغماسا في القتل والتعذيب يطلق أحد الضباط على نفسه اسم "هتلر"، ويبقى العنصر المشترك بين كل بيوت الخالة السورية هو حرص الضباط والجنود على إخفاء وجوههم عن المعتقلين، يقول معتقل: كانوا يقولون لنا بصراحة: تريدون أن تحفظوا وجوهنا كي تذبحونا عندما تخرجون، لذلك كانوا قبل أن يدخلوا زنزاتنا يأمروننا بأن ندير وجوهنا نحو الحائط، وعند التعذيب يضعون "طماشة" -عُصابة- على عيوننا، وقد حدث أن رأى أحد المعتقلين وجه أحد عناصر الأمن، فقال له العنصر: شفتني زين؟.. بكرة ميت، وقد تم قتل المعتقل بالفعل في اليوم التالي.

تتضمن الرواية عدة خيوط درامية، منها المسجونون الذين يتحولون لسجانين، وهي فكرة تستحق رواية مستقلة، ومنها خيوط فرعية كاشفة للمجتمع السوري والعلاقات بين الأفراد والجماعات والعائلات، منها من يعتبرون أنفسهم شوام خالصين، فيما يرون الآخرين دون ذلك، وعلاقة الحب المتنامي بين "نور" و"زين" فيطلب الزواج منها، وتنهي الرواية بالنتظار بعد عرض الفيلم على يوتيوب وتحقيقه رقما عاليا من المشاهدات، ثم تحول نسبي في شخصية "زين"، فبينما كان رماديا، محايدا، من حزب الكنبة/ حزب نفسي نفسي، تطور الأمر ليتعاطف مع "اسباب الثورة، في قناعة بجدوى الأحداث العاصفة التي مرت بها سوريا ومجايلوه من الشباب وصحة رؤاهم.


أحمد خيري العكري- المؤلف
أحمد خيري العمري- المؤلف





الأحد، 31 مارس 2024

رواية "فئران بلا جحور".. صراع الجغرافيا والتاريخ

 

غلاف الرواية

عبدالرحيم كمال

تحمل رواية "فئران بلا جحور" للأديب الليبي "أحمد إبراهيم الفقيه" العديد من التحوّلات/ المستويات/ التحليلات/ الألغاز التي يمكن الركون إليها، والاعتماد على أنها قصد المؤلف وهدفه منها.

تقاطع مع التاريخ

مبدئيا لايمكن إغفال فترة إنجاز المؤلف لروايته -الثلاثينية-، إذ إنها استغرقت من المؤلف ثلاثين عاما كي ينتهي من إنجازها.. فهو كما يقول بدأ كتابة "فئران بلا جحور" قبل نكسة 1967 بثلاثة شهور، ليتم وضعها في الأدراج ثلاثين عاما كاملة ليعود إليها ويُخرجها بين دفتي كتاب، في تقاطع مع التاريخ -الزمن الحقيقي- وأحداث الرواية التي تتناول الصراع البيئي في الصحراء الليبية، بما يتوازى مع الصراع الوجودي في المنطقة العربية، سواء على مستوى تحديات المناخ والطبيعة، وصولاً لصراعات الوجود مع العدو الأزلي للعرب -إسرائيل-.

الموت جوعا وتخمة الشبع

تتمحورالرواية حول هجوم الفئران على محصول القمح في "جندوبة"، وهو ما يكتشفه أصحاب المزارع، وكانوا قد استدعوا في وقت سابق على موعد الحصاد فلاحي قرية "مزدة" ليعاونوهم في حصاد المحصول.. وإذا كان أهالي "جندوبة" قد حصلوا على تعويضات كبيرة من السلطات الإيطالية -التي كانت تحتل ليبيبا وقتها-، فإن المأساة تتجسد حيةً في أهالي مزدة الذين لايستطيعون العودة إلى قريتهم "مزدة" بسهولة لطول المسافة ونفاد الزاد.. ولكن يحدث التحوّل الأول في الرواية على يدي الطفل "علي" أثناء حفره في الأرض بحثا عن ثمر حلو الطعم ليأكله، ليفاجأ -ومعه أهل "مزدة" كلهم بسنابل القمح مدفونة كاملة تحت الأرض، وطبعا الفئران -الجرابيع- هي الفاعل، لتتحول المأساة إلى فرح، ويتحول فلاحو "مزدة" إلى الحفر في الأرض ونبش جحور الفئران، لتمحى من أذهانهم فكرة الرحيل من "جندوبة" والعودة لقريتهم يجرّون أذيال الخيبة، وينقلب خوفهم من الموت جوعا إلى حالة من تخمة الشبع.

هجوم الأغيار

التحول الحاد الثاني يتمثل في وفود "أغيار" قادمين من الشرق إلى "جندوبة" هم "آل جبريل"، ورغم أنهم يأتون مسالمين مدعين أنهم قدموا للمنطقة بعدما سمعوا عن توافر الجرابيع بها، وهي الغذاء المفضل لهم، وهو ما يلقى ارتياحا مبدئيا من "المزداويين"، حيث أنهم سيتخلصون من هم الجرابيع التي اتحدت فيما بينها، وعقدت تحالفات مع حشرات وحيوانات المنطقة، التي تتأذى من بني البشر واعتبارهم عدوا تاريخيا لهم.

لكن "المزداويين" يتحفظون مع "آل جبريل"، ويتعاهدون على عدم إفشاء سر السنابل أمامهم، ويتم تغيير استراتيجية العمل في استخراج ودرس السنابل، ليتم ليلاً بدلا من النهار، لكن مع توالي الأحداث يكتشف "آل جبريل" الأمر ليتقاسموا العمل ومحصول القمح مع "المزداويين"..

التحدي الثقافي

تحدٍ آخر أكثر حدة يواجهه "المزداويون"، إذ يفاجأون بانفتاح "آل جبريل"، فسيداتهم سافرات، ولا غضاضة لديهم في الاختلاط بين الجنسين، بل إن كبيرهم سيدة هي "رابحة"، ثم يكتشفون عدم تحرجهم من أداء سيداتهم لرقصة "الحجالة" التي تبدو وكأن نارا قد اشتعلت تحت قدمي الراقصة لتبدأ في اهتزازات عنيفة لجسدها بما لم يعتده "المزداويون".

إذن.. الآتون من الشرق محمّلين بمعرفة كاملة -العلم- عن المنطقة وأهلها وطبيعتها وما فيها، يعتبرهم "المزداويون" أغيارا بالنسبة لهم، رغم أن الرواية تنفي على لسان الشيخ "حامد" كبير "المزداويين" كون "آل جبريل" دخلاء عليهم، معترفا بأنهم -"المزداويين"- ليسوا أصحاب الأرض، وأن الأرض هي أرض الله.

أحمد إبراهيم الفقيه
أمد إبراهيم الفقيه


ثورة الطبيعة هي الحل

بينما يستعد الطرفان -المزداوية وآل جبريل- للرحيل من "جندوبة" يفاجئنا "أحمد إبراهيم الفقيه" بالتحوّل الأخير والأكبر الذي يختتم به  روايته "فئران بلا جحور"،وهو تحول كوني طبيعي دراماتيكي، يتمثل في سيلٍ عرم يجتاح كل ما أمامه، البشر والخيام وسنابل القمح وجحور الفئران، ويُغرق السيل المنطقة وحين يهدأ ويفقد قوته تبقى المياه في منطقة منخفضة، بما يعني انتظاراً لموسم خصبٍ جديدٍ آتٍ، وهو مايعيد الكرة مرة أخرى ليعيد اصحاب الأرض لأرضهم بعد هجرها، وليطرح القارئ السؤال: ماذا سيفعل الطرفان المتنافران -المزداوية وآل جبريل-، هل ينفذان مخطط الرحيل عن المنطقة، أم يتعايشان ويرحبان برسالة الطبيعة ويعيشان موسماً آخر في المنطقة على الأقل، خاصة أن حالتي زواج حدثت بينهما في فترة الصراع المكتوم، فيواصل "المزداوية" البقاء للعمل في موسم الحصاد القادم، و"آل جبريل" انتظارا لعودة طبيعية للفئران.

الخميس، 22 فبراير 2024

"محمد حمام" شاعرا

 


عبدالرحيم كمال

مفاجأة مذهلة اكتشفتها فجأة عند زيارة لي لإدارة النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، حيث أهداني الصديق "شعبان ناجي" مدير تحرير سلسلة "أصوات أدبية" مجموعة من الإصدارات الحديثة للهيئة، كان من بينها ديوان شعري صغير الحجم، للفنان الشهير دافئ الصوت "محمد حمام".. الديوان "دارة جنديلة" -رغم صغر حجمه- إلا إنه انتشلني من نفسي ونشر في ضلوعي دفئا أزال برد شتاء القاهرة المتفرنج.. ولجمال المفاجأة وعذوبة أشعار الديوان ورقتها، كان لابد من نقل بعض منها إليكم:

 

ياصاحبي

 

ياصاحبي ياحتة من ضلعي

لو اتخفيت أنا ماأقدرش أحوش عنك

كلام الليل وحراسه

يغنوا لك..

يحنّوا لك..

يبوسوا الخد والتاني يدوسوا عليه

أنا ماأقدرش أحوش عنك

ياطير أخضر مالكش لسان..

ياليل شتوي مالكش قرار

ده مين يقدر

يقول أقدر

غير المصلوب..

على كرسي..

في أرض خراب

 

القاهرة 1965

__

دلوني ع السكة

 

ياشاربين كاس الهوا..

دلوني ع السكة..

شربت انا كاسي..

مالقتش غير سكة..

أموت..

ناقص عذاب

من غير كفن..

ولا تربة تلم حتى أحلامي

 

القاهرة- 1964

الخميس، 1 فبراير 2024

رواية "كارا".. النيل يعانق التاريخ في النوبة

 


عبدالرحيم كمال

"كارا" رواية جديدة تضاف إلى رصيد الرواية النوبية تعيد التأكيد على ارتباط أبناء النوبة وجذورهم الممتدة، ضاربة الجذور في التاريخ المصري القديم، والتاريخ الإسلامي، وتمثل رافدا جديدا لنهر الرواية النوبية في الأدب المصري، بدءا من "الشمندورة"، مروا بـ "ليالي المسك العتيقة" و"دنقلة" وغيرها وغيرها.

رواية "كارا" من تأليف شاعر العامية "أسامة فرحات"، الذي وجد نفسه أمام شلال من "الحكي" يستعصي على تناوله شعرا، ليطرق باب الرواية يصب فيه أحداث روايته كإطار وحيد يمكنه استيعاب هذا الزخم من الأحداث والتفاصيل.

روح وطن

الروح الوطنية هي المحور الرئيسي في الرواية، يبدأ من حادث شخصي لـ "كارا" مع مأمور القسم الإنجليزي، ينتج عنه كره مكين في نفسه للإنجليز ولأي احتلال، وهو مايتوالى في حياة ابن "كارا" الذي ينضم لحزب شيوعي.

يطرح القارئ على نفسه سؤالا هاما: أيهما الخط الرئيسي وأيهما الموازي في "كارا"، هل هو سيرة شخص "كارا" أم ذلك الجزء المفعم بالأحداث الجسام من تاريخ مصر.. طبعا كل منها ينبع من الآخر ويصب فيه، حيث يتماهى التاريخان، الشخصي مع العام

تتناول الرواية عدة أجيال محورها "كارا" -ومعنى اسمه بالنوبية الشخص أسود البشرة وهي كلمة أصلها تركي- وهو والد المؤلف، فتبدأ من والد "كارا" -جد المؤلف- وهجوم جيش المهدي على بلدتهم وقتلهم والده وأختيه، ورحيل "كارا" وأخيه "هاشم" إلى بعض القرى النوبية في الجنوب.

تتوالى الأحداث ليرحل "كارا" إلى القاهرة ويندمج في مجتمعها ثم يتجه إلى الغرب -بعد زواجه من إبنة عمه- بادئا ببلجيكا ثم بريطانيا وفرنسا التي يتزوج فيها من فرنسية، تضطر للرحيل معه إلى القاهرة برفقة ابنتهما.

 


منحنيات دراماتيكية

تمر حياة "كارا" ببعض المنحنيات الدراماتيكية، ففي القاهرة يبدأ حياته العملية في محل عمه، ثم العمل ميكانيكيا في ورشة شخص بلجيكي، لكنه في أوروبا يضطر لتغيير مهنته ليصبح شيف في فندق.

تاريخ وأحداث

يعاصر "كارا" أحداث الحرب العالمية الأولى وهو في أوروبا، ليعود إلى مصر محملا بالشوق والوطنية، ويشهد تغيرات سياسية تراجيدية منها قيام ثورة 1952 التي يتحفظ على قيامها في البداية لكنه يؤيدها في طردها للاحتلال الإنجليزي وتأميم قناة السويس.

 

ارتباط أسطوري

تعيد الرواية التأكيد على الارتباط الأسطوري لأبناء النوبة بنهر النيل الذي يمثل لهم شريان حياة الجسد والروح، فطقوس حياتهم اليومية مرتبطة به من الميلاد حتى الوفاة.. حتى أن "كارا" حين يحس بدنو الأجل يستقل قاربا في القاهرة ويتجول به في النيل، ويحرص على أن يميل بجسده لتلمس يده مياه النيل.

ورغم أن العمل روائي، لكن المؤلف لاينسى كونه شاعرا قيختتم روايته بقصيدة يؤكد فيها المعنى من الرواية وأن الهدف ليس رواية أحداث الماضي، لكن استشراف آفاق المستقبل:

عشان يقوم

عالم جديد


الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

الموضوع منشورا في موقع "عين على السينما" عبد الرحيم كمال وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا...