الاثنين، 19 أغسطس 2024

"عهد دميانة".. نظرة أفقية للتاريخ المصري

 

بعد نشره في جريدة "أخبار الأدب"

"عهد دميانة".. نظرة أفقية للتاريخ المصري

عبدالرحيم كمال

منشور "أخبار الأدب"

بعد تفضل الزملاء في جريدة "أخبار الأدب" بنشر قراءتي لرواية "عهد دميانة"، وعلى راسهم الأستاذ الزميل "ياسر عبدالحافظ" رئيس التحرير، أعيد نشر المقال نزولا على رغبة كتيرين لم يتوصلوا للموقع الإلكتروني للجريدة


لا أنكر أن غلالة روحانية ظللت روحي أثناء قراءتي لرواية "عهد دميانة" وما تزال تبث في روحي الطمأنينة وإمدادا للعقل بالتسامي والتوحد في حب الإله الخالق، والإيمان بأن الإنسان مجرد خطوة قدرية -لا بد أن تتم- في مسيرة لا نهائية للإنسانية..

السؤال الخالد

تطرح الرواية السؤال الخالد الذي يجب أن يطاردنا شخوصا وجماعة: من أكون/ نكون، لنعيد النبش مجددا في الوجدان عن الهوية وملامحها.. وسط ما تشغى به رواية "عهد دميانة" من ملامح حياتية وأحداث استعادها المؤلف الدكتور "أسامة الشاذلي" من عمق التاريخ، فالأحداث تمتد متشابكة على مدى خمسة عشر عاماً هي الفترة بين عام 1146 م/ 1161 م، من عهد عبدالمجيد محمد/ "أبوالميمون الحافظ لدين الله"، في أواخر حكم الدولة الفاطمية الشيعية لمصر- 973 م/ 1171 م- وهو عصر الوزراء، وأثناء الحملة الصليبية الثانية 1145– م/ 1149 م- على المشرق العربي، وتنتقل الأحداث بين الأسكندرية والفسطاط وقرية أبي حنس حيث دير الراهبة "دميانة" بملوي بإقليم المنيا حتى قوص بإقليم قنا جنوبا.

غلاف الرواية

تدخل الأديان

الشخصية المحورية في الرواية "يوسف بن صدقة" يؤمن بالله ولكن ليس على دين أو مذهب معين، فهو مسيحي "مَلَكاني" كما كان ابوه -وهو مذهب نشأ في بيزنطة عقب الخلافات الكنسية في القرن الخامس الميلادي ويرى الملكانيون أنهم من نسل المسيحيين الأوائل اتباع السيد المسيح عليه السلام، وتنتشر الملكانية في منطقة الشام التي ينحدر منها "صدقة" والد "يوسف، أما "وَرْد" -أم يوسف- فهي مسيحية كاثوليكية، فيما يدافع "يوسف" عن حاكم مسلم سني هو "علي السلار"، في دولة شيعية، ويتواءم فكريا مع الشيخ المسلم "إبراهيم الكيزاني"، ويجد ضالته في شفافية "رسائل أخوان الصفا".. يظل هذا الشعور طاغياً على سطور الرواية، متسللا منها إلى روح القارئ.

صراعات متوازية

يؤرخ المؤلف "د. أسامة الشاذلي" للسيرة الحياتية لشخوص الرواية، والأحداث المتصلة معها دون تزويق، من تفضيل بعض الأقباط للرومان على العرب الوافدين، وهو ما يشكل أول منحى من مناحي الرواية، حيث تتحول مباراة في التحطيب إلى معركة بين المسلمين -العرب- والمسيحيين، ويتعرض في مواضع أخرى للصراع المستتر بين الأمازيج والمصريين ثم بين المصريين والسودانيين ثم مع المغاربة القادمين مع الفاطميين.

مشهد محوري

 تبدأ الرواية بمشهد محوري لا يختتم إلا بانتهائها، فـ"ورد" التي يتم اختطافها صغيرة من بين أهلها في قوص، -والديها وشقيقها إبراهيم- لتجد نفسها جارية لوالد "علي بن السلار" في الأسكندرية، ولكن مع اكتشافه لتمسكها بمسيحيتها ورفضها ممارسة الجنس معه -كجارية- مقابل أن تكون خادمة وفية له، يحترم "السلار" موقفها ويعتقها ويحرر لها صكا بحمايتها طوال عمره، ثم تتزوج من "صدقة" الكاتب لدى "السلار"، لتنجب منه إبنهما "يوسف"، لتتوالى الأحداث ويشغل "يوسف"، وظيفة أبيه كاتبا في ديوان "علي بن السلار"، لكن القدر يخبئ لـ "يوسف" موقعة من العشق المحرم مع "يوستينا" -جارية "نصر" إبن "عباس الصنهاجي" ربيب "بن السلار"-.. وباكتشاف العلاقة بينهما تهرب "يوستينا" من مصر حاملة في أحشائها جنينها من "يوسف"، وينتظر "يوسف" توقيع عقوبة الزنا عليه، لكن أمه "ورد" تستطيع إنقاذه من الصلب، ليتم الاكتفاء بطرده من العمل ونفيه من الأسكندرية، ليرحل مع أمه إلى الفسطاط، وهناك يعمل بالوراقة، ليدخل في موقعة جديدة مع القدر، حيث يعهد إليه أحد الأشخاص بنسخ كتاب يكتشف إنه "رسائل أخوان الصفا"، الذي يجد فيه معاني متدفقة للحب الإلهي تتماهى مع تساؤلات تشغل من "يوسف" الروح والعقل.

لايكتفي المؤلف الدكتور "أسامة الشاذلي" بالصراع النفسي الوجداني الدائر في نفس "يوسف بن صدقة"، بل تشتبك الأحداث مع الصراعات مختلفة الاتجاهات في السياسة والحكم والسلطة، لنرى دار البنود التي تحولت من حفظ البنود والأعلام لتكون "مخزناً" للرؤوس المقطوعة لحكام ووزراء سابقين، يتم الاحتفاظ بها في آنية زجاجية مليئة بالخل، حتى أن الحارس "أهرمان" يحار في كيفية حفظ الرؤوس الجديدة بعد تكدس المكان، ليسأل نفسه دون القدرة على التنفيذ: هل يضع الرؤوس القديمة في "مقاطف" ليحتفظ بحصاد الرؤوس الجديدة في الآنية الزجاجية والخل؟ ليعكس المؤلف مدى انتشار القتل والاغتيالات السائدة آنذاك.

ترفُّع ديني

رغم الصراعات العديدة بين العرقيات، يسود الرواية التسامي على الخلافات الدينية والمذهبية، فـ "السلار" يكشف في وقت متأخر أنه كان يفكر في إسناد ولاية الأسكندرية لـ "يوسف بن صدقة" -رغم مسيحيته- مستندا، إلى مرات سابقة تولى فيها الأقباط مناصب سيادية في الدولة، وهي نفس الروح المبتعدة عن التمذهب والتعصب الديني التي تدفع "يوسف" ليبحث عن "الحسين" -المسلم- إبن "يوستينا" -المسيحية- من "نصر" بن "عباس الصنهاجي" ربيب "علي السلار"، ليعيش معه، وفاءً لوعده لـ"يوستينا"، ويعهد بالمهمة لـ "وسْن" الراغبة في البتولية والرهبنة والتي ترحل معه إلى قرية "أبي حنس" لتلتحق بدير الشهيدة "دميانة"، ثم نجد "بشارة" خال "وسْن" الذي أعلن إسلامه يبيع قطعة من أرضه ليشتري الغلال لدير "أبي حنس".

إكتمال الدائرة

ويغلق المؤلف دائرة الأحداث بتعرف "إبراهيم" على الصليب الذي كانت تحمله شقيقته "ورد" عند خطفها، فالصليب مكتوب عليه اسم "ورد" باللغة القبطية، وهو نفسه الصليب الذي ورثه "يوسف" عن أمه، وأعطاه لـ "وسْن" في مأواها لديه، ثم أعطته "وسن" لـ "دميانة" ابنة "يوسف" التي يرى "إبراهيم" الصليب في رقبتها، لتختزل اللحظة عمراً فات لينطق بجملته الأثيرة "كنتِ قريبة يا "ورد" أكثرمما أظن يا أختاه"

تورد الرواية ملمحا آخر هاماً على نبذ المصريين للاختلاف الديني من خلال شخصية "الشيخ إبراهيم النصراني"، وكيف يجمع بين لقبين: مسلم ومسيحي، مع مسحة قوية من التصوف والزهد.


ملمح قومي

د.اسامة الشاذلي.. المؤلف

الرواية تشير أيضاً لتجذّر الاتجاه القومي ورفض إحتلال الفرنجة لثغر دمياط، وهو ما يشارك فيه "يوسف بن صدقة" باستغلاله لهوايته الأثيرة في تربية الحمام الزاجل، ويبعث الرسائل إلى عدد من الناشطين المؤمنين بأهمية طرد الفرنجة وتخليص دمياط، ومنهم "نور الدين محمود" بدمشق والثوار في دمياط والأسكندرية، ثم الكشف عن قومية "على السلار" -رغم توليه الوزارة- ومساعدته في إرسال النفط الطيار إلى الثوار في دمياط لإحراق سفن الفرنجة.

رواية "عهد دميانة" تسلِّط الضوء أفقياً على فترة من الأحداث لا تتعدى خمسة عشر عاماً، لتجعل من شخوص المواطنين أبطالاً لتاريخ يحتاج مزيداً من الكشف.


الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

الموضوع منشورا في موقع "عين على السينما" عبد الرحيم كمال وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا...