عبدالرحيم كمال
تمر
السنوات ويظل " عبدالحليم حافظ" الحاضر الغائب، شادي الأرواح وساحر
القلوب، يغني لنا فنسعد، نحب فنبحث عن أغانيه، ونحزن فنُلقى بأنفسنا في بحور دموع
تذرفها حنجرته.
لماذا
يعيش " عبدالحليم حافظ " في قلوب مئات الملايين حتى الآن، ومعظمهم وُلد
بعد وفاة حليم، منذ حوالي نصف قرن من الزمان؟
هل
السبب هو أن صوته هو الأجمل؟ الإجابة لا، هل صوته هو الأقوى؟.. لا، هل.. وهل..
وهل.. والإجابات كلها: لا.. لا..لا.
السبب
الأول هو تلك الحساسية في حنجرة "حليم"، فهو يحس بالكلمة واللحن، ويجيد
التعبير عن المشاعر.. "عبدالحليم حافظ " نقل الأغنية إلى منطقة جديدة هي
منطقة الإحساس في الغناء.. وكما نقول في المثل الشعبي "اللي يطلع من القلب
يخش -يدخل- القلب"، و"من القلب للقلب رسول"، ولأن غناء
"حليم" نابع من القلب كان لابد أن يستقر في القلب.. وهي نظرية أثبتها
العلم ودلل عليها التاريخ، وانظر مثلاً إلى "بيتهوفن"
و"موتسارت" وأسباب انتشار ألحانهما حتى الآن بين مختلف الأعمار
والطبقات، والسر في كل الحالات هو "الإحساس، رغم أن هناك عظماء آخرين كباراً
في الموسيقى السيمفونية ولهم كامل التقدير ولهم طبعاً جمهور كبير، خذ مثالاً
"باخ" و"هاندل" و"فرانز ليست" و"فاجنر"
وغيرهم كثيرون وكلهم عظماء، لكن لم ألحانهم لا تعزف على أوتار القلوب كما عزف
بيتهوفن وموتسارت.
في
حالة "عبدالحليم حافظ " فإنه لو ظهر قبل انتشار الميكروفون، ماكان لأحد
أن يسمعه، وإذا قارنا صوته بغيره من مطربي عصره -سابقين عليه أو لاحقين له بسنوات
قليلة- فالنتيجة لن تكون في صالح "حليم".. فأين هو من حنجرة "محمد
عبدالوهاب" أو "كارم محمود" و"أم كلثوم".. وفيما بعد
بقليل هل من مقارنة بين حنجرتي "حليم" و"محرم فؤاد".. بالطبع
لا.. بل إن كثيرين يتحيّزون لصوت "اسماعيل شبانة" شقيق
"عبدالحليم" لأن صوت الأول أجمل وأكثر اكتمالا.. وهذا صحيح.. كلمة السر
إذن في نجاح "حليم" هي ارتياده منطقة الإحساس في الغناء، وهي الرسالة
التي استقبلتها الجماهير فأحسنت استقبالها.
السبب
الثاني الهام في وصول "حليم" لهذا المستوى من التأثير، هو أن لديه
مشروعاً غنائيا يؤمن به وبأهميته، وسخّر كل مواهبه وإمكاناته لخدمة هذا المشروع
-معروف أن "عبدالحليم" كان ذكياً جداً ودؤوباً ولحوحاً في طلباته
الفنية-.. وعاش من أجل فنه، ولم يعش على حساب فنه.. يعني أن همه الأول كان هو
العمل، وبعد ذلك يأتي أي شئ آخر بما في ذلك صحته.. وقد رفض مثلاً الخضوع لعملية
زرع كبد، وكان هذا النوع من العمليات ما يزال جديدا، ورفض "حليم"
العملية لما تسببه من نسيان وعدم القدرة على التركيز، ونُقل عنه قوله في ذلك: يعني
أطلع أغني أهواك ألاقي نفسي أقول بتلوموني ليه؟ -على ما أذكر ان "أهواك"
كانت إحدى الأغنيتين المذكورتين في سياق الرد، ولكنني لست متأكداً من الأغنية
الأخرى.
[بالمناسبة، هناك تسجيل
تليفزيوني لحفلة يغني فيها "عبدالحليم حافظ" "أي دمعة حزن لا"
وفيها ينسى كلمة في الأغنية وظل يكرر الجملة حوالي 6 مرات حتى تذكّر الكلمة الصحيحة،
وكان واضحاً مدى المعاناة].
السبب
الثالث الهام في درس "عبدالحليم حافظ" عن تربعه على عرش القلوب ذو صلة
بالسبب الثاني.. فقد كان يبحث دائما عن الجديد، وارتبط عمداً بعدد من الشعراء
والملحنين شكلوا تيارات مهمة في "الغنوة الحليمية" ويسعى إليهم، ومن
أهمهم "بليغ حمدي" الذي قفز بألحانه لعبدالحليم سنوات ضوئية، وجاء سابقا
لعصره ولاعلاقة له بالألحان السائدة ويتضح ذلك في الأغأني الطويلة بدءا من
"زي الهوا" مروراً بـ "مداح القمر" و"موعود" ويتجلى
أكثر في "حاول تفتكرني" و"أي دمعة حزن لا".
كما
كان عبدالحليم ذواقة للشعر والموسيقى ويجيد اختيار مايناسبه، وأحياناً يطلب
التغيير في الكلمات والألحان وهو ماكان يتم في الغالب.. وكان لـ
"عبدالحليم" شلة أصدقاء -شأن الآخرين- لكن هذه الشلة كانت مثقفة واعية
بالفن والثقافة والسياسة ومختلف أمور الحياة، وكانت استشاراتهم مفيدة انعكست على
مانسمعه حتى اليوم.
رحم الله "حليم"