السبت، 19 أبريل 2025

الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

الموضوع منشورا في "عين على السينما"
الموضوع منشورا في موقع "عين على السينما"

عبد الرحيم كمال

وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا، وموضوع الشهادة هو سوء وانحدار الدراما المصرية، وهو ما لاحظه السيد الرئيس في أهم موسم للدراما وهو شهر رمضان 2025.

وإذا كانت ملاحظة السيد الرئيس صحيحة تماما، وإذا كنا نشكره عليها، وتثبت أن الرئيس عينه على الشعب، وأنه يعمل بمنطق يد تعمل ويد تحمل السلاح، رغم ذلك فهذه الشهادة تشير لوجود خلل في كل الأجهزة المعنية بالدراما، وأن مسئوليها يفتقدون الخبرة اللازمة، أو أنهم غير أمناء على عملهم، ولا على المواطن الذي يكسبون من ورائه مئات الملايين من سلة عملات العالم، وإلا فما معنى الاتجاه الفوري لتشكيل لجان تنبثق منها لجان، بعضها سيتبع رئيس الوزراء شخصيا!

نتمنى ألا يكون ذلك مجرد زوبعة في فنجان، والموظفون المصريون وراءهم في هذه النقطة خبرات “الدولة العميقة” إياها، هذا المصطلح الذي لم ينعكس مجسدا في شئ، إلا في الفساد، وخلق الروتين، ولي عنق القوانين وإيجاد ثغرات فيها تنزع منها أنيابها والمخالب وتصبح قوانين وديعة مسالمة مستأنسة مثل أي حيوان أليف.. ولديهم المقدرة على تفريغ أي شئ من محتواه الحقيقي بمهارة وإبداع.

السؤال يطل برأسه: وهل كل شئ لابد أن يبدأ من عند الرئيس، وماذا يفعل الباقون من الوزراء، كل في تخصص وزارته- إلى أصغر مسئول؟ إذا كان الأمر كذلك فالطبيعي هو تنحية كل المتخاذلين والمتكاسلين والمرتشين، وفصلهم من العمل أو إحالتهم إلى المعاش المبكر.

الحقيقة تقول أن للرئيس السيسي نفسه محاولة مهمة في التصدي للفساد الإداري الذي ينخر العمود الفقري للدولة المصرية، التي هي عميقة عمق آلاف السنين، حين أصدر منذ سنوات قانونا بمحاسبة موظفي المجالس المحلية بأثر رجعي يمتد ثماني سنوات.. لكننا لم نسمع عن موظف خضع للمحاسبة بهذا الشكل وتفعيل هذا القانون.

 

"مي عمر" في "إش إش"

أين الرقابة

نقاط كتيرة يستدعيها الموضوع، على رأسها “الرقابة على المصنفات الفنية”، فهي التي توافق في البداية على العمل مكتوبا على الورق قبل التصوير، ثم المشاهدة بعد التصوير والسماح بالعرض من عدمه.. والأعمال التي أزعجت السيد الرئيس -وقبلها الشعب المصري كله- مفروض أنها مرت بهذه المراحل الروتينية، فكيف مررت الرقابة هذه الأعمال وسمحت بالتصوير، ثم بالعرض.

الشر ينتصر على الخير

منذ سنوات بدأ التحول الدرامي في مصر، لتتسرب إليها نماذج غريبة.. فيها ينتصر الشر على الخير، بل بدأ صناع الدراما في قلب معادلة الصراع الأبدي بين الخير والشر، فعمدوا لتجميل الشر والأشرار، بينما تجتمع الهوام والحشرات حول الخير، فمسلسل “إش إش” يدور حول راقصة تقع ضحية للآخرين، وهي شخصية مجني عليها -ولا غبار مبدئيا حول شخصية الراقصة فهي شخصية طبيعية في نسيج المجتمع- لكن الأحداث تتفرع لنصل لشخصية تاجر مخدرات، تطالب شخصيات المسلسل –ومعها بعض الجماهير- بعدم القبض عليه لأنهم أحبوه، بعد أن قدمه المخرج في إطار الشخص الطيب والجميل والكيوت والجدع، حتى إنه أصبح فتى أحلام الفتيات.

ظاهرة قديمة

الظاهرة ليست جديدة، بل إنها أصبحت الآن في فترة المراهقة، يعني لم تعد طفلة.. وهنا يبرز اسم “محمد سامي” – أحد أبرز مخرجي المسلسلات في السنوات الأخيرة- وهو مخرج مسلسلي “إش إش” و”سيد الناس” اللذين تم عرضهما في رمضان 2025.

الحارة المصرية.. غرائبية

الناس يتساءلون عن سر اختيار “سامي” أبطال مسلسلاته من واقع غرائبي، حتى مَشاهد الحارة المصرية عنده تأتي زاعقة، ليس فيها غير الخناقات والسب بألفاظ نابية بدأت تشق طريقها للدراما المصرية، كل شئ فيها يتم في الشارع أمام الملأ وعلى العلن، ليس فيها حرمات ولا خصوصيات، القوي فيها هو من يسن القوانين وينفذها، ليتحول تدريجيا من الجدعنة إلى الفتونة وصولا إلى البلطجة، ويتحول معه بعض أهل الحارة إلى مساعدين منافقين له، بفعل الخوف، وبفعل مكاسبهم من ورائه.

ومن الواضح أن “محمد سامي” وغيره من المخرجين يحاولون مضاهاة عالم الحارة في روايات “نجيب محفوظ” وعالم الفتوات فيها ويحاولون إعادة تقديمها، لكنهم للأسف لم يفهموا روح الحارة وفلسفة أهلها والحميمية التي تجمع بينهم، فتحولت الحارة في مسلسلاتهم إلى منبع للشر، وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.

هكذا يبدو "محمد سد" في مسلسل "الأجهر"


غسل دماغ المشاهدين

بالعودة لسنوات العقد الماضي، نجد الظاهرة تبدأ من هناك، فمسلسل “الأجهر” مثلا لـ “عمرو سعد” يتناول لصوص الماس وكيف تم تقديمهم في جو من الرفاهية، وتبرير أفعالهم، ويضفي على شخصية “الأجهر” صفات الطيبة وعمل الخير ومساعدة الفقراء.. وبالعودة للخلف قليلا نجد مسلسل “جبل الحلال” لـ “محمود عبدالعزيز” يدور الصراع فيه بين تاجر آثار وتاجر سلاح، ورغم أن المجالين محرمان قانونا ومرفوضان جماهيريا، فقد تم تجميل تاجر الآثار “محمود عبدالعزيز”، ورغم محاولة توبته فإنه يعيش ناعما بما جناه طوال عمره من أموال، بل ويتم “توريث” المهنة لأحد شباب العائلة “كريم عبدالعزيز”.. وفي هذه النوعية من الدراما تقدم الحلقات مشاهد من الثراء والرفاهية تتضاءل أمامه وبالتدريج أي قيم، وتصب السم في لا وعي الجمهور، ليعجب أولا بما يراه، ثم يتمنى أن يعيش في مثل هذا النعيم، ولو على حساب قيمه وأحلاقه ومبادئه، وربما يحاول السعي لتحقيق ذلك، بعد أن غسلت عشرات المسلسلات أدمغة الجمهور.

العودة للثأر

من الظواهر السلبية الخطيرة المتوازية مع الموضوعات المطروحة في الدراما التليفزيونية خلال العقد الماضي إعلاء تيمة الانتقام التي سادت كثيرا من المسلسلات في الأعوام الماضية، فهي تمجد قيمة الثأر الشخصي، وتحض على الاندماج بالشر ومجاراته، لاكتساب بعض خبراته في الممارسات الإجرامية، تمهيدا ليوم يقتص فيه الإنسان لنفسه، في تأكيد على العودة لقوانين الغابة، ومنها مسلسل “العتاولة”، وكأن أبناء الحارة المصرية تخلوا عن أخلاقهم ومعتقداتهم فجأة ليصبحوا براجماتيين، ويرفعون شعار “المصلحة أولا وقبل كل شئ”.

وداع المدينة الفاضلة

هؤلاء الفنانون ينقلبون على فكرة المدينة الفاضلة، ويقدمون المدينة غير الفاضلة –ديستوبيا- بديلا جديدا، يحاولون سحق شعاراتنا القديمة “الحق، الخير، الجمال” تحت أقدامهم باعتبارها وهماً وأفكترا بالية، وبالتالي فالمجد للشيطان والقبح والشر والتردي.

لقطة من "سيد الناس"

الاثنين، 17 فبراير 2025

قنوات الأطفال.. سقطت عمدا من التليفزيون المصري


عبدالرحيم كمال

من السقطات الفاضحة للإعلام المصري -وهنا أتحدث عن التليفزيون- إغفاله لبرامج الأطفال -حاليا- وعدم الانتباه لأهمية إنشاء قناة تخاطب الأطفال في مراحلهم السنية المختلفة.. زمان كان عندنا بابا ماجد -رحمه الله- وبقلص نجوى ابراهيم -أطال الله في عمرها- الآن الساحة خاوية، وكأننا مجتمع يخلو من الأطفال.. الراية المرفوعة دوما من المسئولين إياهم - راية جلب الفقر- هي قصر ذات اليد وعدم وجود أموال لإنتاج برامج الأطفال المكلفة - ناهيك عن قناة متخصصة للأطفال-، خاصة في هوجة إنشاء قنوات النيل المتخصصة في عهد صفوت الشريف وحسني مبارك، وكأن الريادة في زيادة العدد لا المضمون، وكلنا نعرف النتيجة.. المهم أن تعامي الإعلام المصري عن تخصيص قناة تليفزيونية للأطفال جعل الأنظار تتجه بشكل طبيعي إلى بديل، لتطهر قنوات عديدة تحملها الأقمار الصناعية، ومنها عدد لا بأس به من القنوات العربية، كثير منها غير حكومي -وربما كلها- ويقف وراءها شركات أو رجال أعمال آمنوا بالفكرة، ومؤكد أن هذه القنوات لا تخسر، إن لم تكن تحقق الربح، ومنها قنوات جيدة الطرح والمضمون والتنفيذ، وتعمل على مدار اليوم، ومن هذه القنوات طيور الجنة، بطوط، ماجد، مجد، تنة ورنة، سمسم، أطفال ومواهب، إم بي سي 3، ميكي كيدز، ديزني كيدز، كوكيز، توم وجيري.


اللي يغيظ هو أن بمصر عددا كبيرا من الفنانين المهتمين بالأطفال، ويمكنهم العمل فورا في برامج إذا دعاهم أحد للعمل، وهناك رسامون يشاركون في الرسوم المتحركة، ويتخرج كل عام عدد كبير منهم من أكاديمية الفنون.. ومنذ ثلاثة عقود أنتج التليفزيون بوجي وطمطم وتم تقديم شخصية كارتونية مصرية شهيرة هي بكار، وهناك أيضا شركات تساهم في مثل هذه الأعمال، وقد استغلت هذه الفكرة بعض الأغاني عند تصويرها فيديو كليب.. لكننا نتكاسل أو ندعي العمي ونتجاهل أهمية قطاع هام من المواطنين هم شباب المستفبل، وأهمية تشكيل وعيهم منذ الآن.


الخميس، 6 فبراير 2025

“جنة الشياطين”.. الميت خفيف الظل بطلا للفيلم

بعد في موقع Eye Om Cinema

“جنة الشياطين”.. الميت خفيف الظل بطلا للفيلم



عبدالرحيم كمال*

تبقى تجربة فيلم “جنة الشياطين” -1999- تجربة متميزة شديدة التفرد, وتظل محتفظة بحيويتها وغرابتها وقدرتها على الإدهاش، على المستويين المصري/ العربي، والعالمي، وجزء من الدليل أننا نستعيده بالمشاهدة والكتابة والطرح والتحليل رغم مرور 26 عاما من عرضه الأول.

تجربة الفيلم لا تقف عند تميزها، وتتعداها لتكون تجربة “مجنونة”، بل شديدة الجنون من الفنان “محمود حميدة” منتجا وممثلا -رغم أنفه ولإنقاذ الموقف- فإذا كان قد اختار كمنتج إنتاج الفيلم عن قناعة، ولم يكن يفكر بالتمثيل فيه، لذلك عرض دور “طبل” -الذي يظهر ميتاً طوال الفيلم- على أحد كبار النجوم -لم يصرح باسمه-، لكنه لم يكلّف نفسه بمجرد الرد، ليكمل “حميدة” التحدي ويتصدى لأداء الدور بنفسه.

عذر محتمل

ربما كان النجم الذي لم يرد على “محمود حميدة” معه كثير من الحق -لا بعضه- بالمنطق العام، فكيف يمكن لممثل نجم أن يؤدي دور ميت طوال الفيلم، فعلى الأقل -في الثقافة الشعبية- هو فأل سئ.. ومع احترامنا لهذه الثقافة، فإن الممثل الذي تهرب من مجرد الرد، لم يستطع طبعا تقدير فكرة الفيلم والدور وما يحملان من بعد فلسفي، والناس ليسوا متساوين في فهم الحياة وفلسفة الموت والميتافيزيقا.. مع إشارة ضرورية لاهتمام “حميدة” بالفلسفة والتاريخ والأدب العالمي، التي قادته لرواية البرازيلي “خورخي أمادو” التي تمت ترجمتها عدة مرات للعربية تحت عنوانبن:”ميتتان لرجل واحد” و“الرجل الذي مات مرتين”، والأخيرة هي التي استند الفيلم إليها.. كما أن المخرج البرازيلي “سيرجيو ماسادو” قدمها في فيلم بعنوان “الذي يصرخ من الماء” في 2010.. 


                      الميت ساخرا

يتناول الفيلم حكاية “طبل”، البوهيمي الذي يموت في حانة، ويعتقد أصدقاؤه أنه يمازحهم، أو أنه ثمل، ولا يعترفون بموته، فكيف يموت وهو الركن الأساسي في حياتهم البوهيمية، فيعاملونه وكأنه حي، ويصحبونه للمنزل، ويسقونه مزيدا من الخمر.. كل ذلك ولا تبدو من “طبل” سوى ابتسامة ساخرة، كأنها تختصر الحياة والتعليق على كل ما يدور حوله.

تمرد اجتماعي

 يتضح بعد موت “طبل” أنه من عائلة محترمة، وكان مثاليا في عمله وبيته، ليتم نقل جثمانه  إلى بيته وأسرته، لتبدأ إبنته “سلوى” -كارولين خليل- الإعداد للجنازة ، لنبدأ في اكتشاف مقارنات تفرض نفسها، فـ “طبل” هو اسم مستعار إختاره “منير رسمي” عندما تمرد على حياته وطبقته الاجتماعية وانفصل عن أسرته واتجه لحياة البوهيمية.. ويستعرض الفيلم باختزال غير مخل مظاهر الزيف في أسرة “منير”، فالجنازة لا تمثل لها سوى الحفاظ على بريستيج العائلة، وعند زيارة “حُبّة” -لبلبة- لأسرة “طبل” لإبلاغها بخبر الوفاة، تسأل نفسها عندما ترى صورة زوجة “طبل”/ “منير رسمي” -منحة البطراوي-:كيف استطاع “طبل” الحياة مع هذه المرأة؟، وفي المقابل نرى صدق وبساطة الحياة البوهيمية والمنتمين لها، وإن كانت الحياة عندهم لا تعني سوى اللحظة، ولا أهمية إلا لكيفية قضائها والاستمتاع بها.


نزوة القديس

هناك أفكار متقاطعة تدور في ذهن “سلوى”، فرغم تمسكها بالشكليات تكشف عن اقتناعها ببعض أفكار والدها، من وجود زيف في الأسرة -أو المجتمع- وأن “طبل”/ “منير رسمي” كان أبا مثاليا لها، وتواجه أمها بأنه -أيضا- كان زوجا مثاليا، وبالتالي فإن عليها -الأم- تناسي سنواته البوهيمية، باعتبارها نزوة، وإن كانت -سلوى- تراها نزوة راهب أو قديس، لتواجه اتهاما طبيعيا من الأسرة بأنها مجنونة كأبيها، ورغم رفضها اسم “طبل” فإنها تردده مع نفسها بسعادة.. وحين تكتشف الأسرة سرقة أصدقاء “طبل” للجثمان ترفض إبلاغ الشرطة، وتسأل: هل نبلغهم أن والدها خرج مع أصدقائه؟ ثم تواجه العائلة بأنهم فعلوا ما يجب عليهم لإعداد الجنازة، لكنه اختار أصدقاءه.. وتبدو مقتنعة أن جثة والدها لن تعود إليهم -مما يشير إلى تفهم طبيعة هؤلاء البوهيممين- فتطلب بيع الصندوق، ثم تخطر في بالها فكرة الإبقاء على الصندوق لاستخدامه عند موت أحد أفراد العائلة، وتعبيرا عن تشاؤم العائلة من الفكرة، يفترض أحدهم أنها هي -سلوى- التي قد تموت وتستخدم الصندوق، فترد بفكرة قد تكون طوباوية بأنها لا تعتقد أنها ستموت في صندوق.

رموز وشفرات

يتضمن الفيلم بعض رموز تستوجب التوقف عندها لفك شفراتها، أولها اختيار اسم “طبل” وهو اختيار موفق، لأنه يحمل روحا شعبية، وما للطبل من دوي يصل للأسماع عبر مسافات شاسعة، وأن الطبل -وهو آلة إيقاعية وترتبط لدى الفئات الشعبية بالرقص- فهو يمكن أن يشكل إيقاعا للحياة.. ومن رموزالفيلم  الضفدع الذي أهداه أصدقاء “طبل” له عند زيارته، والضفدع تميمة للتفاؤل بالثروة والغنى، وكذلك رمز السيارة التي تبدو خردة تسير على إطارات، وأبوابها التي لا تصلح لتكون أبوابا، فيضطرون لخلعها ورميها في الصندوق الخلفي، وفي المشهد قبل الأخير لا يتمكن الأصدقاء الثلاثة من فتحها إلا بمشقة بالغة ومجهود كبير وهم محبوسون داخل السيارة لفترة طويلة، مما يؤكد على بوهيمية الحياة عندهم وقضاء اللحظة كيفما تكون، لتتكرر الأعطال والمشاكل دون محاولة لإصلاح حقيقي. 

معالجة فنتازية

الفكرة سريالية، قدمها الفيلم بشكل فنتازي، فالأصدقاء الثلاثة لا يثقون بفكرة موت صديقهم “طبل”، فقد تعودوا منه المزاح -وإن كان صعبا هذه المرة-، وعلى قناعة بأنه يمكنه فعل أي شئ رغم موته، فهم يسألونه عمن يختاره من بينهم ليكون صديقا لـ “حُبّة” بعد وفاته، ويشاركونه اللعب والشراب، ويشكّون بأن “طبل” دبّر فكرة الموت لكي يعود إلى أسرته.

كذلك تثق “سلوى” في قدرات أبيها رغم وفاته، وفي مشهد اجتماع العائلة بعد دخول أصدقائه لإلقاء نظرة الوداع عليه، وحين يرتفع صوت الضحك داخل الغرفة، تقول شقيقة “منير/ طبل” إنه يضحك بعد مجئ أصدقائه.



الوفاء للبوهيمية

مجتمع بوهيمي متكامل عاش فيه “طبل” عشر سنوات من عمره، مع شخصيات عديدة بينهم أصدقاؤه الثلاثة -من الشباب- إضافة لاثنتين من الداعرات هما “حُبّة” -لبلبة، و”شوقية” -صفوة- وتمارسان الدعارة مع مجموعة أخرى من الزميلات -تم ذكر اسمائهن فقط- وقد أعلنّ الحداد أسبوعا لموت “طبل”، لكن الشبق يغلب “حبة” و”شوقية” فتعودان سريعا للعمل، حبا للأموال كما تقول حبة، ثم ممارسة الجنس للجنس في السيارة مع الأصدقاء الشباب، وبينهم “طبل” المبتسم سخرية في موته.

مشاهد صعبة 

رغم أن الشخصية الأبرز في “جنة الشياطين”هي شخصية “طبل” التي أداها الفنان “محمود حميدة”، فإن جميع الممثلين كانوا على “المازورة” فهما للدور وحدود الحركة، وقدرة على الأداء، بالنسبة للأدوار الطويلة أو القصيرة.. وقد قدمت “لبلبة” دورا بديعا، قدمت فيه مشهدا من الصمت البليغ عندما أبلغتها “شوقية” -صفوة- خبر موت “طبل”، استمر المشهد دقيقتين و18 تانية في إبداع تمثيلي لا يمكن نسيانه.. ويتضمن نفس المشهد مونولوج لـ “صفوة” غاية في الإبداع في تقطيع الجمل والنطق بها والتعبير عن مشاعرها عند رؤية “طبل” والتأكد من موته، وكيف شعرت بالخجل منه وقتها.

ومن المشاهد المركبة مشهد “سلوى” مع جثمان أبيها حين رأته للمرة الأولى، وجعلتها ابتسامته تغرق في الضحك، أو ضحك على ما ألحقه بالأسرة من سخرية، ثم حين تجلس على مقعد يتحطم تحتها تنهمر في البكاء، ليس من ألم السقوط، ولكن من فقد أب كانت تعتقد بشكل أو آخر بصحة وجهة نظره في الحياة.


نزيف الممثلين

إحدى نقاط أهمية الفيلم تقديمه لثلاثة وجوه جديدة هم “عمرو واكد” و”عادل سري النجار”و”صلاح فهمي”.. ورغم نجومية “عمرو واكد” فيما بعد، إلا أن اختفاء زميليه من الساحة الفنية يثير الأسف، والأمر يشمل الفنانة “كارول خليل” التي لم يستثمر أحد موهبتها ورقي أدائها، ولا شك أن لظاهرة “حرق النجوم” التي اجتاحت الدراما المصرية دخلا بذلك.

جنوح إلى المنطق

يقدم الفيلم معالجة فنتازية، تجنح بطبيعتها للخيال، لفكرة سريالية، وهو ما خفف من حدة الموت وجعل من “طبل” ميتا خفيف الظل، وفي هذا الإطار يقوم المخرج بتحريك بسيط لـ“طبل” الميت، منها تحريك إصبع القدم، وإخراج اللسان، وبصق الخمر من فمه في وجه صديقه، ثم تغير حجم الابتسامة، وسماعه يصدر صفيرا بفمه وكلها تصب في تأكيد الشعور بقدرة “طبل” على فعل ما يشاء، وسماع ضحكاته في المنزل عند زيارة أصدقائه، لكن في نهاية الفيلم يمنطق المخرج الفيلم، فيبدو الكادر مقلوبا في النفق، وفي نهاية النفق بقعة سوداء بالانتظار، بما يعني النهاية الحتمية للسيارة ومن فيها والموضوع كله.. وربما لو استغنى المخرج عن هذا المشهد وجعل ضحكة “طبل” مع موسيقي “فتحي سلامة” هي المشهد الختامي لكان الفيلم أكثر اتساقا، فليس من المعقول محاكمة الخيالي/ غير المنطقي بالمنطق.

لكن لا شك أن الفيلم واحد من أفضل ما قدمت السينما المصرية في تاريخها، من حيث الموضوع والمعالجة، والصورة باقتصار شديد ودون ثرثرة في سيناريو “مصطفى ذكري”، أو اللقطة بإشراف “طارق التلمساني” مديرا للتصوير، والمونتير “خالد مرعي”، ورؤية واعية للمخرج الراحل “اسامة فوزي”.

* صحفي وكاتب مصري

الأربعاء، 29 يناير 2025

“وعاظ السلاطين”.. الأزمة الدائمة في الأمة الإسلامية

 




وعاظ السلاطين”.. الأزمة الدائمة في الأمة الإسلامية.. عن موقع "الحوار المتمدن"

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=856250


عبدالرحيم كمال*

كتاب  وعاظ السلاطين صدرت طبعته الأولى في عام 1954، من تأليف د. علي الوردي (1913 - 1995)، وهو عالم اجتماع عراقي ومؤرخ وأستاذ جامعي، أصدر عددا كبيرا من الكتب والدراسات الهامة تسد ثغرة كبيرة في المكتبة العربية، من أهمها كتابه وعاظ السلاطين.. وربما يتساءل القارئ الكريم عند سبب تقديم قراءة لكتاب صدر منذ 70 عاما.

يكمن السبب في تفرد موضوع الكتاب، فهو يتناول موضوعا ندر من يتطرق إليه، ثم إنه يقوم بتشريح الظواهر والتاريخ والظرف السياسي، اجتماعيا ونفسيا، لتشخيص أمراض الأمة الإسلامية، والعرب في مقدمتها.. ورغم أن علي الوردي يوجّه كتابه بشكل أولي للعراق، فإن الظواهر التي يتناولها في الكتاب نراها ما تزال منتشرة في كتير من أقطارنا الإسلامية، وخاصة العربية.


على أن تخصيص المؤلف لموطنه العراق لتوجيه سِفْره الهام وعاظ السلاطين ليس هو التخصيص الوحيد الذي يحدده المؤلف لمن يقرأ الكتاب، فهو يبدأ كتابه بتوجيهه لمن يريد أن يفهم، ويعترف مبدئيا بأن طروحات الكتاب لن تعجب المدللين والمترفين، ويقول إنه يوجّه الكتاب للجيل الجديد الذي سئم الصراعات والخلافات الطائفية، وهو ما يتناوله الوردي في الكتاب بشكل مفصل.

مواعظ غير واقعية

ينتقد الوردي أولا عدم واقعية مواعظ الواعظين في المساجد والمنتديات الدينية، لعدم قراءة الوعاظ لمجتمعهم، ويعزون التفسخ الاجتماعي إلى سوء أخلاقنا، ويعتبرون الإصلاح أمرا ميسورا، فبمجرد أن نصلح أخلاقنا ونغسل قلوبنا من أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح سعداء مرفّهين ونعيد مجد الأجداد.. ويدعو الواعظين لأن يكونوا براجماتيين/ نفعيين بعض الشئ ويراعوا طبيعة النفس البشرية، ويقول إن العراق حكمه الطغاة أجيالا متعاقبة، فاعتاد سكانه أن يحترموا الظالم ويحتقروا المظلوم، وأخذ مفكرونا يصوغون مثلهم العليا صياغة تلائم هذه العادة الاجتماعية اللئيمة.

ازدواج الشخصية العربية

يرى الوردي أن العرب مصابون بازدواج الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم، والسبب وقوعهم أثناء تطورهم الحضاري تحت تاثير عاملين متناقضين هما البداوة والإسلام الذي جاء حاملا قيما جديدة تخالف قيم البداوة المحرضة على الكبرياء وحب الرئاسة والفخر بالنسب، فيما أن الإسلام هو دين الخضوع والتقوى والعدالة، ويرى أن العراق هو الأكثر ازدواجا بين الدول العربية لسببين: الأول إنه كان -ومايزال- يتلقى موجات بدوية أكثر من غيره، والثاني أنه كان منذ صدر الإسلام منبعا للفرق الدينية ومهبطا لكثير من مبادئ الإسلام وتعاليمه وأفكاره، وفيه نشأ المناطقة وأرباب العلم والفلسفة، وفيه ترددت الكثير من أصوات الواعظين والمرشدين.. ويشير الوردي إلى زيادة ازدواج الشخصية كلما ابتعدنا عن الصحراء واتجهنا أكثر نحو المدينة.. ويشير الوردي تاريخيا، إلى أن النبي (ص) وحّد القبائل العربية المتنافرة وجعلهم في مواجهة الروم والفرس، بعد أن كانوا يحاربون بعضهم، وعند توقف الفتح  رجع البدو إلى طبيعة التنازع بينهم، ويشير  إلى أنه لو تمت دراسة الثورات المتواصلة دراسة نفسية لوجدناها مظهرا خارجيا لما كان يحدث في النفوس من صراع، وكان الناس في ذلك الحين مصابين بداء الصراع النفسي بشكل عنيف، فهم كانوا بدوا في أعماقهم، ويطالبون الحكام باتباع تعاليم الإسلام.. كانت قلوبهم بدوية وألسنتهم إسلامية، وكان الفرد يحتج على الحكام بالحجة الدينية، ثم يثور عليهم بالسيف البدوي، فهو في أعماله قبلي فخور، وفي أقواله تقي زاهد.

المؤلف.. د. علي الوردي

الطاغية يبكي

يقول علي الوردي إن العهد الأموي شهد ثغرة بين الدين والدولة، فالدولة كانت راسخة الدعائم في الشام تؤيدها سيوف القبائل العربية، بينما كان حملة الدين والفقه والحديث ينشرون دعوتهم المثالية بين الفلاحين والغوغاء وأهل الحرف، وكان الدين والدولة -بهذا- يسيران في اتجاهين متعاكسين، وحين جاء العباسيون حاولوا إزالة تلك الثغرة، لكنهم لم يوفقوا إلا ظاهريا، فقد قربوا الفقهاء وأهل الحديث وتظاهروا لهم بالخشوع، فيما كانوا في حياتهم يسيرون كغيرهم من الملوك.. وكان الخليفة العباسي إذا جاء وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى، وانسحب هذا على العامة.. ويبدو أن البكاء عند سماع الوعظ أصبح في نظر البغداديين غاية لذاته، فهم في مجلس الوعظ يبكون ويشهقون ثم يغمى عليهم ويذوبون شوقا إلى الله وخشية منه، وفي السوق ينقصون الكيل ويستغلون الغريب.

نوع واحد

ويخلص المؤلف في سفره وعاظ السلاطين إلى أن الوعاظ والطغاة من نوع واحد، هؤلاء يظلمون الناس بأعمالهم، وأولئك بأقوالهم، وقد برع الفقهاء فيما يسمونه الحيل الشرعية، فهم يجدون مسوّغا شرعيا لكل عمل مهما كان دنيئا.

بين الحب والاحترام

من الظواهر النفسية التي يلفت المؤلف نظرنا إليها في أصحاب الشخصية المزدوجة، هي أنهم يحبون من لا يحترمونه ويحترمون من لا يحبونه، فنجد فرقا كبيرا بين محبة الناس واحترامهم، ويرجع ذلك إلى الازدواج الذي تغلغل في تكوين شخصيتنا.

منطق مغاير

يعود المؤلف للتاريخ والبناء على أحداثه فيقول: عبد اليزيديون الشيطان وتركوا الله، وحجتهم أن الله يحب الخير بطبيعته فلا حاجة لاسترضائه أو عبادته، أما الشيطان فهو مجبول على الشر، وهو إذن أولى بالعبادة والاسترضاء، مضيفا: نحن نسخة من عقيدة اليزيديين هذه، ويعلق: وما درينا أننا جميعا يزيديون من حيث لا ندري.

مبرر ديني

يرى الوردي أن وجود الغنى الفاحش بجانب الفقر المدقع في مجتمع واحد يؤدي إلى الانفجار عاجلا أو آجلا، مهما طلي هذا التفاوت بطلاء من الدين أو الخُلُق أو الشرف، والدين لا يردع الإنسان عن عمل يشتهي أن يقوم به إلا بمقدار ضئيل، فتعاليم الدين يفسرها الإنسان حسب ما يشتهي، وقد رأينا القرآن أو الحديث مرجعا لكثير من الأعمال المتناقضة قام بها المتنازعون في صدر الإسلام، فوجدناهم يقتل بعضهم بعضا، ويكفّر بعضهم بعضا.

حقيقة ابن سبأ

يفرد المؤلف فصلا كاملا لتحليل شخصية عبدالله بن سبأ وأقواله وأفعاله، وما يُنسب له من تحريض الأمصار علىعثمان وتأليب علي بن أبي طالب، وأنه المحرك الرئيسي لـ ابي ذر الغفاري في دعوته الاشتراكية، وأنه وضع تعاليم لهدم الإسلام وألف لذلك جمعية سرية’’ وينسبون له  كذلك إختراع فكرة الوصية التي تقول أن لكل نبي وصيا، وأن وصي النبي محمد (ص) هو علي بن أبي طالب.

لكن الوردي يتفق مع طه حسين في نفي أي وجود لابن سبأ، مستندا لدليل عقلي وهو أن أبا ذر لم يكن بحاجة لمن يعلمه حقوق الفقراء على الأغنياء، وأن الله بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بعذاب أليم.. ويعيب الوردي على المؤرخين الذين ذكروا قصة ابن سبأ أنهم يتصورون أن المجتمع الإسلامي كان راضيا هادئا مطمئنا، وأنهم -المؤرخين- بذلك ينضمون لكتيبة الوعاظ، ويرى أن المجتمع الإسلامي حينذاك كان يعاني أزمة إجتماعية كبرى، فقد كان الفرق بين الغنى والفقر شاسعا، وبالتالي كان لا بد من الثورة.. ويوجه الوردي إصبع الاتهام في اختراع شخصية ابن سبأ إلى معاوية بن أبي سفيان وطبقة الأغنياء.

بدء الانشقاق

يثير الوردي في سفره وعاظ السلاطين نقطة محورية في إطار بدء الانشقاق في صفوف المجتمع الإسلامي، فبعد أن كان الحاكم يعتمد على الشورى، حوّله معاوية إلى ملك وراثي تدعمه الجيوش، لينقسم المجتمع إلى فريقين متعاكسين: فريق يدعو إلى الخضوع للسلطان مهما كان ظالما، وفريق يدعو إلى الثورة، ولجأ كل فريق إلى السيف أولا، ثم إلى القرآن وحديث الرسول (ص).

قريش والإسلام

يُفرد وعاظ السلاطين فصلين لقريش، فيشير إلى أن الإسلام كان في بدء أمره ثورة كبرى على طغيان قريش، وبينما أفاد الإسلام بدخول قريش فيه، إلا أن قريشا حوّلت الإسلام إلى نظام للطغيان والفتح، وأن قريشا لم تحارب محمدا (ص) ودعوته دفاعا عن آلهتهم، بل من أجل مصالحها التجارية ومنزلتها الطبقية وكرامتها القبلية، ظنا منهم أن دين محمد سيقضي على الكعبة والحج والأسواق والتجارة التي تنتعش بسبب الحجيج، ويدلل على ذلك بما حدث في فتح مكة حين أبقى الرسول (ص) على الكعبة وحطم الأصنام وسط صمت القرشيين، مما يؤكد أن قريشا لم تكن مخلصة لأوثانها في محاربة محمد، فلما وجدت مصلحتها مصونة وكرامتها موفورة في الدين الجديد، تركت آلهتها وانضمت لصفوف محمد.

كراهية متبادلة

يشير الوردي إلى كراهية محتقنة بين قريش وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب لأن كلا منهما ينتمي لقبيلة صغيرة، كما أن قريشا لم تكن تميل لـ علي بن أبي طالب لأنه هاشمي، كذلك كانت تكره عمار بن ياسر لأنه من الموالي وكان عبدا قبل الإسلام، وكان أسمر يميل لونه إلى السواد، وكلها صفات تحتقرها قريش، وكانت تطلق عليه لقب العبد الأسود.. لذلك كان هؤلاء يبادلون قريشا الكراهية -عدا أبي بكر الذي لم يصدر عنه تعبير عن كرهه لقريش-، وقد لعبت الكراهية بين قريش وعمر وعلي وعمار أدوارا محورية في التاريخ الإسلامي، أهمها مشاركة عمار بن ياسر في قتل عثمان بن عفان.

فرصة الأمويين

يسرد المؤلف وقائع تاريخية لوصول بني أمية للحكم، فقد كانوا ينتظرون الفرصة، ولم يكون القرشيون مقتنعين بتولي أبي بكر ومن بعده عمر للخلافة، وكانوا يخشون وصول علي لها.. وكان معاوية بن ابي سفيان قد أستعد في دمشق لهذا اليوم منذ تولي عمر بن الخطاب للخلافة، وعند تولي عثمان بن عفان أصبحت دمشق بمثابة العاصمة الفعلية للدولة الإسلامية، وكان معاوية ينتظر وصوله للحكم ليحوله إلى ملك عضوض، وهو ماحدث.

يذكر الوردي أنه بعد تولي عثمان للخلافة وتقريبه لأقربائه منحهم الأموال والأملاك ومناصب الدولة بدأ الأعراب يشعرون بتعالي القرشيين وظلم عثمان لهم في الفتوحات العديدة، ورأوا أن الغنائم تصب في جيب القرشيين وحدهم، ومن هنا كانت بداية الثورة.

هل قتل الأمويون عثمان

يتهم المؤلف معاوية بن أبي سفيان بالمشاركة في مقتل عثمان حين منع مده بالجنود، كما يتهم مروان بالتصرف بحمق ورعونة في عهد عثمان وأثناء الثورة عليه، ومشاركته في تهييج الناس على عثمان وعرقلة الصلح مع الثوار، بينما بدا مروان نفسه على شئ من الاتزان والتروي وبُعد النظر بعد مقتل عثمان.. كما يتهمه المؤلف بتزييف الكتاب الموقّع بخاتم عثمان، والموجه إلى والي مصر لقتل الثوار حين وصولهم إليه، خاصة أن الغلام حامل الرسالة لم يكن متخفيا، بل أعلن عن نفسه ومهمته للثوار وهم في طريقهم إلى مصر، وكأن الأمر مقصود ينطوي على مكيدة ضد عثمان.

عودة للجاهلية

 يواصل المؤلف تشريحه الاجتماعي/ النفسي لقريش، فيزيد من صفحات الكتاب يخصصها لقريش ودخولها الإسلام.. فبينما كانت قريش في وجاهة وكرامة ويسار قبل ظهور الإسلام، فقد اختلف الأمر جذريا بعد ذلك، فحلت الخطابة محل الشعر في التعبير عن النفس والقضايا العامة والخاصة، مما أنزل قريشا درجات على السلم الاجتماعي، وهو تحول يساير تحول المجتمع نفسه من نظامه الفبلي القديم إلى نظامه الديني الجديد، لذا أصبح المجتمع بحاجة لواعظ لا لشاعر.

لكن حين وصل الأمويون إلى الحكم، أخذ معاوية يحيي القيم العربية/ البدوية ومنها الشعر، وعلى نهجه سار يزيد، غير أن إحياء الأمويين للتقاليد البدوية القديمة لم يتوقف عند الشكل والوسيلة، بل امتد لمنظومة الفيم نفسها ومنها الفخار القبلي والعنصرية البدوية، وأثار الأمويون النزاع القديم بين عدنان وقحطان، كما عملوا على بث روح النعرة الجنسية ضد الجنسيات الأخرى، فصارت دولتهم دولة شعرية عربية لا تفهم الإسلام إلا على أساس قومي/ بدوي، واختزلوا محمدا ليصبح في نظرهم بطلا قوميا للعرب، وبذلك دخل الدين الإسلامي طورا جديدا هو الغزو القومي، والفتح والاستعمار.

دور عمار بن ياسر

ينسب د. علي الوردي في وعاظ السلاطين إلى عمار بن ياسر قيامه بدور كبير في الصراع الاجتماعي في عهد عثمان بن عفان ويرى أن دور عمار كان أشد وأبلغ من دور أبي ذر الغفاري.. وكان عمار يميل إلى علي بن أبي طالب ضد عثمان، فعثمان في نظر عمار يمثل قريشا التي كان يعتقد أنهم لم يسلموا حقا، بل استسلموا للأمر الواقع وتظاهروا بالإسلام انتظارا لفرصةٍ ما، بل وصل الأمر عند عمار إلى القول بأن عثمان بن عفان خرج عن طريق سلفيه العظيمين -أبي بكر وعمر-.

هنا يخطو المؤلف خطوة واسعة للأمام فيصف عمار بن ياسر بأنه كان سبئيا من الطراز الأول، بل إنه كان زعيم السبئيين الأول، ويتهم المؤرخين بالتقصير المخل -بما يعني الخيانة العلمية ولي عنق التفسير التاريخي للأحداث- بإحجامهم عن وصف عمار بن ياسر بالسبئية رغم ذكرهم حالات عديدة تؤكد ذلك.

علي.. قنبلة ذرية

عن علي بن أبي طالب يرى علي الوردي أنه  أكثر الرجال إثارة للجدل في الأمة الإسلامية، فيذهب البعض إلى تأليهه، ويزيد من الجدل كثرة الأحاديث المنسوبة للنبي (ص) في مدح علي، مما لاقى هوى في نفوس مؤيديه.. ويشبّه المؤلف أسطورة علي بن أبي طالب بالقنبلة الذرية وقد فجّر ذرتها الأولى الرسول (ص) ثم توالت الانفجارات، خاصة بعد قيام علي بثورته الكبرى من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية.

هنا يظهر الخلاف بين الشيعة والسنة، فالشيعة يؤمنون بأن النبي أوصى لعلي بالخلافة من بعده، فيما ينكر السنة ذلك، وقضية الشيعة والسنة هي أكثر القضايا وعورة في خوضها في نظرالمؤلف ولاسيما في العراق، ويرى أن المشكلة تكمن مبدئيا في اعتمادنا على منطق قديم يعتبر الحق والباطل أمرين متضادين، بينما يعتبرهما المنطق الحديث أمرين اعتباريين، والنزاع فيهما نزاع على المقاييس أكثر منه على الحقائق، ويقول المؤلف إن العباسيين كانوا من الشيعة، ولكنهم يتشيعون لأهل البيت -يقصدون العباس وأولاده- لأنهم -في نظرهم- اولى من علي وفاطمة بوراثة النبي، ويقول إن كلا من الشيعة والسنة أخذ في التطرف والتعصب، فالسنة جعلوا مقياسهم في الصحابة هو الفضيلة، والشيعة جعلوه في النسب العلوي، وبدأ ظهور مصطلحي الروافض وأطلقه السنة على الشيعة لرفضهم الصحابة، وأطلق الشيعة لقب النواصب على السنة لأنهم ناصبوا اهل البيت العداء، وبهذا زاد الغلو وأصبح داء اجتماعيا وبيلا.

زمان الشعوب

يصل المؤلف في ختام وعاظ السلاطين إلى ضعف نفوذ التدين الذي حل بدلا منه نفوذ وعاظ التمدن من دعاة المجد التليد، ويقول إن الغريب أن الدعاة المتفرنجين لايختلفون عن الوعاظ المعممين إلا بمظاهرهم الخارجية ومصطلحاتهم التي يتشدقون بها، هؤلاء يصيحون: الدين.. الدين، وأولئك يصيحون: التمدن.. التمدن.. وقد آن الأوان لكي نُحدث انقلابا في أسلوب تفكيرنا، فقد ذهب زمان السلاطين، وحل محله زمان الشعوب.

* كاتب وصحافي مصري




الدراما التليفزيونية: تسقط المدينة الفاضلة

الموضوع منشورا في موقع "عين على السينما" عبد الرحيم كمال وأخيرا “شهد شاهد من أهلها”، والشاهد هو الرئيس “عبدالفتاح السيسي” شخصيا...